05 - 05 - 2025

د.سمير فوزي حاج للمشهد : يافا بيّارة العِطْر والشِّعْر.. واحةٌ أفلَتَتْ مِن الجَنَّة

د.سمير فوزي حاج للمشهد : يافا بيّارة العِطْر والشِّعْر.. واحةٌ أفلَتَتْ مِن الجَنَّة

حوار : حورية عبيدة

"يافا" أكثر المدن حُضوراً في المتخيل الشعري العربي عامَّة والفلسطيني خاصَّة، لأنها كانت أهم المدن الفلسطينية؛ ومركز إشعاعثقافيٍّ وسياسيٍّ واجتماعيٍّ واقتصاديٍّ، وميداناً للحداثة ، ترمز في الذاكرة الجماعية إلى ضياع وطن وتهجير شعب، وقد لقَّبها الشعراء قبل النكبة بـ "عروس فلسطين" و"عروس البحر" و" عروس الشاطئ" و"مدينة الزهور" و"يافا الجميلة"، لكنها بعد العام 1948 صارت: " الفِردوس المفقود" و" أرض البرتقال"ورمزاً لـ "الدم النازف في خاصِرة العالَم".

د.سمير فوزي حاج؛ الباحث والمحاضِر الأكاديمي في الأدب العربي الحديث -والذي التقيته خلال زيارته الخاطفة لأبوظبي أتياً وعائداً للجَليل- نحاوره؛ ليلقي علينا إجابته الشافية للسؤال: لماذا يافا؟ تلك التي اختصها بسنواتٍ طويلة مِن عُمره يدْرس ويرْصد أدبها خاصة الشِّعر، وما قيل عنها مِن الشّعراء الفلسطينيين والعرب ، وهل اختلف قبل وبعد النَّكبة؟

يُلمح السؤال في عيني فيبادرني بقولِه: يافا عروس البحر؛ كَعبة الأدب؛ ومنارة الصحافة سابقاً، إليها يرحل الشعراء وفي نفسهم ثمالة ورواء مِن عَبق برتقالها في مينائها العتيق، ورائحة بحرها، وغِناء صياديها، وليل نسيمها، وسِحْر أماسيها، لـ "يافا" وجهٌ آخر في سِفْر الشّعراء؛ تطلُّ فيه وهي ترفل زهواً قبالة الصخور السوداء المشروخة أمام الشاطئ–ولصخورها أسطورة شهيرة-، بحُلةٍ مِن ليمونٍ وبرتقال؛ ذلك الكنز السندبادي الذي ظل طويلاً يمخر عباب البحر كهدية عَطِرة لأنحاء الدنيا، تُرخي أناشيط ضفائرها، وتُرهف أذنيها، وتمد عنقها الأتلع وهي تصغي لـ "حورية البحر" وهي تنثر شذرات مِن الأويقات السعيدة في دفتر الماضي المعسول وزمان الوَصل.

وماذا عنها في المُتخيّل الشعري؟

يافا الحاضر تطل مِن وراء الأكواخ والأزقّة وحطام البيوت والركام بوجه "سيزيف" المعاصرة، فقد غاب قمرها، وخبا نوّار برتقالها، وسكتَ كنارها، ومع ذلك وُلِد مِن رحمها أساطين الأدب ورواد الفن وفياهق الفكر، وإلىها رحلت نوارس الشِّعر وإضمامات الأغاني بعد أن غادر الشّعراء... فهل غادروا حقاً؟!

لها في التشكيل الشِّعري صورتان نقيضتان، واحدة قبل النكبة تتمثل بفسيفساء جميلة مُركَّبة مِن بيارات برتقالها، ومينائها، وشواطئها ونوارسها، وأحيائها الجميلة، وصَدَفها ورمالها، وأنْجمها، وأزهارها الفواحة، فكانت مُلهمة الشّعراء؛ومُتيَّمتهم؛والمُسكرة لحواسهم، وفيها يقول حسن البحيري:

أتسأل عن زهرة البرتقال..

وعن السّر في سِحر أزهارها..

عن الفجر يوقف ركب الصباح..

 ليقبس فتنة أنوارها..

عن العطر تسكب منه النجوم..

سُلاف الدّنان لسمّارها
وصورة ثانية بعد النكبة؛ تصورها مكاناً مفقوداً مسلوباً مِن أهله، مسكوناً بالهدم والخراب، مَسفوعاً بالفجيعة وبأسراب السنونو؛ مِن خلال مزاميرٍ مُترعة بالحسرة والمرارة الكاوية؛ ومُحبَّرة بالدموع وعصير الشوق ، فتصبح مدينة مُشتهاة، ترحل إليها العيون والقلوب مِن الشتات والمَنفى القَسري، بينما تبقى الأجساد تذوب حولها عبثاً في دروب الضياع.. تتراءى يافا كالأرض اليَباب، وهذا ماسمَّيته "يافا المشطورة " كما في قصيدة الحب والجيتو لـ راشد حسين:

يافا لمن يجهلها كانت مدينة..

 مهنتها تصدير البرتقال..

وذات يومٍ هُدمت ..

 وحولوا مهنتها تصدير اللاجئين

 الحنين ليافا جُزء مِن الحاضر الذي يعيشه الفلسطيني المنفي عن وطنه، والذي لفحته رَمضاء الغربة وحياة التشرد والخيام؛ فهل اختلف الشعراء في التعبير عنه؟ وماذا عن الشاعرات؟

الحنين عند الشُّعراء متنوع ومتباين؛ ويختلف مِن شاعر لآخر؛ ومِن حقبة لأخرى؛ فهو في القصائد التي كُتبت مباشرة بعد نكبة 1948 ذو مسحات رومانسية حزينة مُترعة بوصف جراح المأساة والهزيمة ولعن حياة الخيام والغربة وتجربة المنفى ونشدان العودة، ويُلاحظ هنا أن هاجس العودة أشغل الشاعرات الفلسطينيات المغتربات أكثر مِن الشعراء؛ لأنهن أكثر انفعالاً وتأثراً بالمآسي؛ لرهافة حسّهنّ وصدق بوحهنّ؛ تقول شهلا الكيالي:

يا رياح البحر في يافا..

 أعدي زورق العودة للدار..

 سَئِمْنا قفص الجمر وأحلام التراب..

 ملَّنا الصمت ولم يبق مِن العُمر..

 سوى خطوٍ وباب

 أما فدوى طوقان فهاجس العودة لديها يأخذ بُعداً ثورياًيتطلَّب المواجهة والنضال:

أيُغصب أرضي؟ أيُسلب حقي؟

 وأبقى هنا حليف التشرد أصْحب ذلة عاري هنا؟

 أأبقى هنا لأموت غريباً بأرضٍ غريبة؟

 سأرجع لابد مِن عودتي..

 سأرجع مهما بدَتْ محنتي

أما عند الشعراء فهاجس العودة لديهم يأتي بشكل عابر مع طغيان طابع الحزن والأسى؛ ففي قصيدة محمود الحوت:

يافا؛ لقد جفَّ دمعي فانتحبت دماً     متى أراكِ؛ وهل في العُمر مِن أمدِ؟!

وكذا عند يوسف الخطيب:

كيف نأتيكِ ومن أين؟.. دعِي نجواكِ            تهبط في دجى الغربة وَحْيا

وكيف تشكلت صورتها لدى غير الفلسطينيين؟

 عند الشعراء العرب غير الفلسطينيين؛ يتراءى هاجس العودة على شكل حلم وخيال أو سخرية لاذعة؛ يقول العراقي عبد الوهاب البياتي:

وكأن حلمتُ بأنني بالورد أفرش والدموع طريقكم     وكأنَّ يسوع معكم يعود إلى (الجليل) بلا صليب

والشاعر السوداني سيد أحمد الحردلو يقول:

يافا إليك نعود مِن خلف البحار       هذا صياح الديك وقد طلع النهار

أما الليبيّ على الفراني فيقول بسخرية:

أصدقائي ..

سوف نبقى مثلما نحن غباءً وصراخاً..

"عائدون"..

والطغاة الغاصبون يصنعون الموت صنعاً..

 يصنعون

تطرقت في بحثكم لعلاقة الزمان بالمكان؛ فهل لنا ان تلقي لنا ضوءاً حول ممصطلح "الزمكانية"؟

تتحول يافا إلى رمزللفلسطيني، يصبح الحلم بعودة "شطري البرتقالة" هاجساً وخيالاً لا ينفك عنه الشعراء؛ ففي قصيدة حسن البحيري:

أسال عن زهرة نورت..

فهامَ الفتون بنوّارها..

سمائي سَقَتها مذاب الضياء..

وأرضي غَدَتها بأعطارها

هنا يتفاعل الزمان مع المكان لتصير يافا "زمكانية" الشِّعر؛ فتأتي مشاهد مِن العشق الصوفي؛ لتصير مدينة شعرية مُتخيلة منثورة بالنجوم وبيارات البرتقال أو كغادة حسناء على حد وصف محمد الجواهري:

 "يافا" يوم حُطَّ بها الركاب    تمطَّر عارضٌ ودٌجا سحاب

ولفَّ الغادة الحسناء ليلٌ         مريب الخَطو ليس به شهاب

هذه "الزمكانية" تتجلى عند فدوى طوقان حين تنشد:

أترى ذكرت مباهج الأعياد في (يافا) الجميلة     أهَفَتْ بقلبك ذكريات العيد أيام الطفولة

وفي قصيدة درويش يراها الرمز:

أحج إليك يايافا..

معي أعراس بيّارة..

فناديها عن الميناء..

عن الميناء ناديها..

 وشدّيني وشدّها..

 إلى أوتار قيثارة..

 لنحيي سهرة الحارة..

وشوق الحب للحناء

وقد يلجؤون للرموز الدينية للدلالة على الضياع والتيه والمعاناة؛ فها هو معين بسيسو يراها:

يافا ببطن الحوت مازالت..

يجوب بها البحار..

الحوت تاه ..

من ذا يدل الحوت ياطفلي ويطويه العباب؟

بينما يراها البياتي رمزاً للأَسر والتضحية والفِداء:

(يافا) يسوعك في القيود..

عار، تمزقه الخناجر عبر صلبان الحدود..

 وعلى قبابك غيمة تبكي وخفاش يطير

أما أودونيس فيعتبرها"يوتوبيا اللامكان"؛ ورمزاً للرفض والدم النازف في خاصرة العالم، أي أنه يعطيها رمزاً ومدلولاً شمولياً:

غير أنَّ النهر المذبوح يجري..

كل ماءٍ وجه يافا..

كل جرحٍ وجه يافا..

والملايين التي تصرخ: كلا، وجه يافا..

 والأحباء على الشرفة أو في القيد أو في القبر يافا..

 والدم النازل مِن خاصرة العالم يافا..

 سمّني قيساً وسمّ الأرض ليلى..

 باسم يافا..

باسم شعبٍ شرَّدته البشرية..

سمّني قنبلة أو بندقية

وكذا عند الشاعرة العراقية نازك الملائكة؛ التي تعلن انتماءها لفلسطين، وترى يافا المدينة الحزينة التي تزرع عندها بنفسجة؛ بينما تُزرع في المدن الأخرى القرنفل والزنابق والجوري والشقائق والسوسن والليلك!